الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية 158 من سورة الأعراف وله صلة في تفسير الآية 28 من سورة سبأ في ج 2، وتدل هذه الآية صراحة على أنه مرسل لجميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم.وقرأ ابن الزبير للعالمين بالتثنية، يريد الإنس والجن وقراءتها بالجمع أحسن، وعليها المصاحف.وفي تقديم الجار والمجرور على المتعلق تشويق للسامع بانتظار ما بعده، ومراعاة لفواصل الآي، لأن أكثرها جاءت على نسق واحد في هذه السورة كالإسراء وطه ومريم الآتيات والقمر والمرسلات المارتين وسورة الرحمن والإنسان في ج 2.ثم وصف نفسه تعالت نفسه بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يتصرف فيهما وفيما بينهما وما فوقهما وتحتهما كما يريد ويختار، لا ينازعه فيها أحد إذ الكل تحت قبضته.واعلم أن لفظ الملك يطلق على الأرض، والملكوت على السماء، وما فيهما على الانفراد، وفي حالة الجمع كما في الآية 75 من سورة الأنعام ج 2 والآية 174 من سورة الأعراف المارّة، ويجوز استعمال أحدهما مكان الآخر، راجع تفسير الآية 89 من سورة الأنبياء في ج 2 {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} كما يقوله الظالمون لعدم حاجته إليه {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} يعاونه على تدبيره أو لا يعاونه، لأنه العظيم المدبر له وحده الجليل المنفرد في أمره الرحيم المستقل بشؤونه.وفيها ردّ على من يقول من العرب واليهود والنصارى بأن الملائكة وعزير والمسيح أبناؤه، وعلى التنويه القائلين بتعدد الآلهة وبأن خالق النور غير خالق الظلمة، وخالق الخير غير خالق الشر، تعالى اللّه في ذلك وتنزه.{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ} من المكونات الأرضية والسماوية {فَقَدَّرَهُ} هيأه لما يصلح إليه، وما يليق به وما يكون منه {تَقْدِيرًا} 2 بديعا لا يبلغ كنهه أحد سبحانه خلق ووفق وسوى وهيأ لكل حيوان وشيء ما يناسبه ويحتاجه وقدر سائر مخلوقاته، وأحسن كل شيء خلقه، وهداه لما يحتاجه ويسر له ما يلزم، فهيأ للإنسان الفهم والإدراك والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاد واستنباط الصنايع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة، وجعل له فكرا واسعا كلما استعمله انصقل وازداد في المعارف الكونية، وهكذا سائر مخلوقاته يسرها لمنافعها، وسهل عليها ما تحتاجه {وَاتَّخَذُوا} مع هذا كله {مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} من الجماد والحيوان ومما صنعته أيديهم {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} البتة إنسانا ولا حيوانا ولا جمادا {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} من قبل عبدتهم لأنهم ينحتونها ويصوغونها ويصورونها وينجزونها بأيديهم وهم مخلوقون بخلقنا، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} الآية 91 من الصافات الآتية {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} فعجزهم عن نفع وضر غيرهم من باب أولى، لأن من لا يستطيع أن يحفظ نفسه فكيف يدافع عن غيره {وَلا يَمْلِكُونَ} كرره تأكيدا لبيان عجزهم وضعفهم {مَوْتًا} لأحد في الدنيا لأنهم ميتون فيها {وَلا حَياةً} لمن يموت في الدنيا {وَلا نُشُورًا} 3 في الآخرة ليحيوا فيها حياة دائمة في الجنة، فالإله الذي يستحق العبادة هو من يقدر على أن يميت في الدنيا، ويحيي في الآخرة من يميته، وينعمه بالجنة إذا كان صالحا، ويعذبه بالنار إذا كان كافرا، فالذي لا يقدر على شيء من هذا كالآلهة المتخذة، يجب أن تهان وتداس لأنها لا ترضي ولا تخشى، فكيف يليق أن تكون آلهة فأعرضوا أيها الناس عن هذه الأوثان، واعبدوا الإله القادر على كل شيء الفعال لما يريد، مالك الملك والملكوت، المنصرف به إيجادا وإعداما، النافع الضار، المحيي المميت الذي يؤمل خيره ويخشى ضره ويحذر شره {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ} ما {هَذا} الذي يتلوه عليكم محمد ويحسنه لكم ويرغبكم فيه ويأمركم باتباعه على أنه كلام اللّه ما هو {إِلَّا إِفْكٌ} كذب محض {افْتَراهُ} اختلقه من تلقاء نفسه واخترعه من تصوراته.وليس كما يزعم أنه كلام اللّه أنزله عليه، كلا وإنما زوره هو {وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعنون عدّاسا وعايشا مولى حويطب بن عبد العزّى ويسار مولى العلاء ابن الحضرمي وجبر مولى عامر، لأنهم من أهل الكتاب يحسنون قراءة التوراة والإنجيل والزّبور، وكان صلى اللّه عليه وسلم يتعاهدهم رأفة بهم، لا أنه يتعلم منهم، فهم أعجز من أن ينطقوا بآية من القرآن لأنهم أعاجم، وقال المبرد عنوا جماعة من المؤمنين، لأن لفظ آخر لا يكون إلا من جنس الأول، وقد غفل عن أن الاشتراك في الوصف غير لازم، ألا يرى قوله تعالى: {فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ} الآية 13 من سورة آل عمران في ج 3، فإن الأخرى فيها ليست من جنس الأولى من حيث الوصف، مما يدل على أن اللزوم الذي ذكره غير لازم كلزوميات المعرّي إذ سماها لزوم ما لا يلزم، وذلك أنه ألزم على نفسه فيها أن يكون حرف الرويّ وما قبله من جنس واحد من كل ما نظمه هناك، وهو غير لازم في أصول الشعر.وما قيل إن المراد بهم اليهود فغير صحيح، لأن اليهود لم يجالسوا الرسول في مكة، وكل ما وقع منهم معه في المدينة وهذه السورة مكية عدا الآيات المستثنيات الآتية وهذه ليست منها، وقال جل المفسرين إنها نزلت في النضر بن الحارث بن عبد الدار وجماعته رؤوس الكفر القائلين إن هذا القرآن ليس من عند اللّه وإنما هو من نفس محمد وأعوانه، فأكذبهم اللّه بقوله: {فَقَدْ جاؤُ ظُلْمًا} لجعلهم العربي الفصيح يتلقن من الرومي والبربري، وكلام اللّه أعجز البلغاء بيانه وأفحم العقلاء معناه، وهؤلاء لا يقدرون على فهمه فضلا عن تعليمه فما جاءوا به تعسفا {وَزُورًا} 4 لاتهامهم حضرة الرسول بنسبه ما هو بريء منه، كما هو منزه عما وصموه به من السحر والكهانة وشبهها في آيات أخرى {وَقالُوا} أيضا ما هذا القرآن إلا {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} خرافاتهم {اكْتَتَبَها} عن غيره {فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 5 صباح ماء ليحفظها خفية قبل أن ينتشر خبرها بين الناس، وبعد انتهائه من كتابتها صار يتلوها علينا ويقول إن اللّه أوحاها إليه.واعلم أن هذه وأشباهها مما فيها لفظ أساطير الأولين قد قال فيها ابن عباس إنها من جملة ثمان آيات في معناها، نزلت في النظر المذكور أعلاه ويراد بها أخبارهم البالية غير المخطوطة المحققة، كما تقول الآن عند ما تسمع حكاية غير معقولة هذه خرافة وإسرائيلية، أي لا قيمة لها لعدم الجزم بصحتها لأنها لم تنقل عن حديث صحيح وسند حسن، ولهذا أمره اللّه بأن يردّ عليهم بقوله عز قوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} كل أمر خفي عن القلب فضلا عن غيره مما هو {فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ومما تسرونه أنتم وليس كما تزعمون وتقولون {إِنَّهُ كانَ غَفُورًا} دائم المغفرة أزلا وأبدا {رَحِيمًا} 6 مستمر الرحمة لعباده لا يعجل العقوبة ويمهل عباده علهم يتوبوا ويرجعوا، ولا يهمل من بصر على كفره، وأحب شيء إليه رجوع عبده إليه، فقد جاء عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «اللّه أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» رواه الشيخان والترمذي.أما الذي لا يتوب ومات على كفره فقد أعد له من العذاب ما لا تقواه قواه، والمعنى أن الذي أتلوه عليكم أيها الناس هو كلام اللّه، فمن اتبعه أوصله إلى الجنة، ومن كفر به أدى به كفره إلى النار، فآمنوا به لعلكم تفوزون في الدنيا والآخرة {وَقالُوا} أيضا مدعمين أقوالهم الواهية المارة بما هو أوهى منها وهو {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ} كما نأكل {وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ} كما نمشي يبتغي الرزق مثلنا فمن كان رسولا يجب أن يكون ملكالا بشرا مثلنا يأكل ويتطلب الرزق ويحتاج إلى البشر {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} ردا له إذا لم يكن هو ملكا، وهذا على زعمهم أنهم نزلوا إلى درجة أدنى مما قبلها والحال أنها أكبر {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} 7 للبشر ليصدقه في قوله ويقويه في أمره ثم تنزلوا إلى ما هو أدنى أيضا بوهمهم فقالوا أو يلقى إليه كنز من السماء يكتفي به عن السعي كآحاد الناس إذ لا يليق بمن يدعي هذه الدعوة أن يساوي الناس، بل يجب أن يتنزه عن مضاهاتهم في المأكل والمشرب والملبس والعمل، ثم تنزلوا عما هو أقل من ذلك كله {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها} على الأقل فيسدّ بها حاجته ويمتاز بها عما من شأن الغير وهم يعلمون أنه ما احتاج قط إلى غيره منذ نشأته بينهم إلا لربّه {وَقالَ الظَّالِمُونَ} وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم في قولهم {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} 8 مخدوعا مجنونا وقد وصموه بهذا بعد أن وصموه بالشعر والكهانة ووصموا كلام اللّه بأنه مفترى، وأنه من أساطير الأولين، وانه تعلمه من الغير وانه مملى عليه، إلى غير ذلك.
|